Subscribe RSS


د. محمد بن إبراهيم الحمد

أعرف شخصاً متوسط الحال، أو أقل من ذلك، وهو ذو عيال، وليس له مصدر رزق غير دُكانٍ متواضع يبيع فيه بعض الحاجات اليسيرة في البناء وغيره، وكان له قطعة أرض على شارعين، وهي -تقريباً- أنفس ما يملك.

وكانت تلك الأرض في حي جديد لا يوجد فيه مسجد.

وكانت رغبة أهل ذلك الحي في أن يكون موقع المسجد في الأرض الآنفة الذكر؛ لأن مكانها ملائم جداً.

ولكنهم كانوا متردّدين في مخاطبة صاحبها؛ خوفاً من أن يرفض بيعها.

ولمَّا كُلِّم في ذلك الشأن، وكان قصارى ما يطمح إليه أهل الحي أن يوافق على مبدأ البيع بِغَضِّ النظر عن القيمة - فاجأهم بقوله: موعدكم غداً كتابة العدل؛ فلما بدأ دوام اليوم التالي ذهبوا إلى كتابة العدل، وإذا هو في انتظارهم، فقالوا: ماذا تريد ثمناً لتلك الأرض؟ قال: لا أريد شيئاً، إنما أريد أن أفرغها دون مقابل؛ كي يُبنى عليها المسجد، وقد بادرتُ؛ خشيةً من أن يحول دون ذلك حائل!!

فما كان من الحاضرين إلاّ أن دُهشوا، واستولت عليهم الحيرة من ذلك الموقف النبيل الذي يدل على إيمان، واحتساب، ويقين، وإيثار لما عند الله.

وبعد ذلك بُني المسجد، وصار المصلون يتقاطرون عليه، ثم أصبح فيما بعد مسجداً جامعاً.

وأعرف شاباً كان قليل ذات اليد، ثم فُتح عليه من الدنيا ما فتح، ثم ركبته بعد ذلك ديون، ثم فُتحت عليه الدنيا مرة أخرى.

وكان له صاحبٌ قد وقف مع صاحبنا وقفاتٍ مشرفةً لمَّا كان يمرُّ بأزمته المالية.

وفي يوم من الأيام احتاج ذلك الصاحب مبلغاً من المال، فاستدان من صديقه الشاب مبلغاً قوامه مليون وستمائة ألف ريال، ثم دارت الأيام، وخسر خسارة مالية أودت بكثير من ماله، فلما أراد أن يرد الدين إلى صديقه الشاب لم يتيسر له ذلك.

وفي يوم من الأيام جاء إلى صديقه وهو في حالة من الضيق، والشدة، فسأله صديقه الشاب عن سبب ذلك، فأخبره بأمره، فقال له الشاب: هوِّن عليك؛ الأمر يسير، وأنت لك أياديك البيضاء، فآمل ألاّ تحمل همَّاً من الدين، وإن كنت لا تقدر على دفعه كاملاً فادفع ما استطعت، وإن كنت تريد أن أتنازل عن شيء منه فلك ذلك، وإن كنت تريد أتنازل عنه كاملاً؛ فأنت أهل لذلك؛ فكريم مثلك لا يحسن التخلي عنه، ولا يمكن أن تُنسى مواقفه.

ففرح صاحبه لذلك الموقف النبيل، وقال لصديقه الشاب: ليس عندي ما أعطيك إلا نصف المبلغ -يعني ثمانمائة ألف ريال- فخذه الآن، فقال له صديقه الشاب: وباقي المبلغ أنت في حِلٍّ منه.

وأعرف شخصاً قُتل أحد أبنائه في مشاجرة عادية، وحُكم على الجاني بالقصاص؛ فصارت الوجاهات، والأموال الطائلة تُعرض على والد المجني عليه دون جدوى.

ولما حُكِم له، وأمسك حقه بيده، وقرُب وقتُ التنفيذ - استخار الله -عز وجل- واستشار أقاربه في العفو، وبيَّن لهم أنه راغب فيه، فأعانوه على الخير، وقالوا أنت وشأنك.

ولما أيس أهل الجاني، وتوقفت محاولات الإصلاح - تَوجَّه ذلك الوالد إلى القاضي الذي حكم في القضية، وسجل تنازله الكامل دون قيد ولا شرط.

ولم يكتف بذلك، بل اتصل فور خروجه من المحكمة بوالدي الجاني، وهاتفهما، وبشّرهما بعفوه عن ابنهما؛ فكادوا يقضون نحبهم من شدة الفرح.

وصار ذلك العفوُ حديثَ الذين دخلوا في موضوع الصلح، والذين سمعوا بالقضية، وتابعوا أحداثها؛ فكانوا ما بين مصدق ومكذب لذلك الموقف العالي النبيل الذي لا يكاد يتكرر وجوده؛ إذ لم يكتف ذلك الوالد الكريم الفاضل بأن يكون من العافين عن الناس، بل دخل في قبيل المحسنين؛ إذ أحسن في عفوه غاية الإحسان، ورفض كل ما قُدّم، واحتسب أجره على الله، وقال: لو حصل أن أخفيه عن نفسي لفعلت، فكان بذلك مضربَ مثلٍ، وموضعَ قدوةٍ، ومحلَّ ثناءٍ ودعاءٍ؛ حيث توالت عليه وفود الناس شاكرة له، مثنية عليه، داعية له، فجزاه الله خير الجزاء، ورحمه ورحم ولده رحمة واسعة؛ وجعل ذلك الصنيع سبباً لرفعة درجاته، وإقالة عثراته، إنه سميع قريب.

وأعرف رجلاً حصل لأحد أبنائه حادث اصطدام مروري؛ فتوفي ذلك الابن من جرّاء الحادث.

فلما بلغ الخبر والده استرجع، وأوصى بقية أبنائه بمتابعة الموضوع؛ لأن الحادث وقع في مدينة أخرى.

أما الوالد فاشتغل بصاحب السيارة الأخرى؛ حيث صار يتابع حالته الصحية، ويسأل عنه، فلما أُخْبر أنه سليم فرح بذلك.

وفي اليوم التالي للحادث حضر أقارب صاحب السيارة الأخرى من منطقة بعيدة جداً؛ لتعزية أهل الميت، وحضور الجنازة، فاستقبلهم والد الميت، وأكرم وفادتهم منذ أن قدموا، وهيَّأ لهم مكاناً خاصاً، وصار يتردّد عليهم هو وأولاده.

ولما صُلّي على الجنازة، وتناول القادمون طعام الغداء، وصاروا ينتظرون بقية أكابرهم؛ لكي يعزوا والد الميت، ويفاوضوه بشأن الموضوع - دخل عليهم في مقر إقامتهم، وقال: ماذا تريدون أيها القوم؟ نحن نرغب في إكرامكم، ومزيد مكثكم، ولكننا نخشى أن نقطعكم عن أعمالكم.

فقالوا: نحن ننتظر وفداً من أكابرنا؛ لكي يفاوضوك في الأمر، فأقسم عليهم ألا يأتي أحد، وأنه لو كان الأمر بيده لما رغب في أن يأتي من أتى، وأبلغهم بأن الأمر قد انتهى، وأنه قد تنازل عن كافة حقوقه المتعلقة به؛ فما كان من القادمين إلاّ أن أجهشوا بالبكاء فرحاً، وإعجاباً، وإكباراً لذلك الرجل، وشهامته العالية.

فهذه مواقف رائعة، ونماذج لمعالي الأمور وأشرفها.

وهنالك -في المقابل- أمثلة لسفاسف الأمور، ومرذولها، فأعرف شاباً مكافحاً يسعى إلى إعفاف نفسه عن سؤال الناس، وقد اشترى لأجل ذلك سيارة شحن، وصار يحمل عليها البضائع، ويوصلها من مكان إلى مكان، ومن بلد إلى بلد مقابل مبالغ يتفق عليها مع أصحاب البضائع.

وفي يوم من الأيام طلب منه شخص غني أن يُوصل أغراضه إلى بلد يزيد بُعْدُهُ على ستمائة كيلو متراً، واتفقا على سعر معين؛ فلما أوصل الشاب تلك الأغراض بدأ صاحبه بمماكسته، والإلحاح عليه بأن يتنازل عن بعض المبلغ، مع أنه مبلغ زهيد يأخذه كل الذين هم على تلك الشاكلة.

حينها قال له الشاب: ألم أتفق معك على المبلغ المذكور؟ قال له صاحبه الغني: بلى، ولكن آمل أن تتسامح في بعض المبلغ، فقال له الشاب: أنا فقير مسكين لا دخل لديّ، وأعول أسرة، وأنت رجل غني لا يضيرك هذا المبلغ، فقال الغنيّ: ولو كان الأمر كذلك فأنا آمل منك تلبية رغبتي.

ولمَّا ضاق ذلك الشاب بتلك المماكسة عزَّت نفسه عليه، وقال: إذا كان الأمر كذلك فأنا متنازل عن جميع المبلغ، وأودّعك الآن؛ لكي أرجع إلى بلدي وأهلي، فقال له الغني: لا، ليس الأمر كما تقول، وإنما أطمح أن أصل إلى حل سواء بيني وبينك، فأقسم الشاب ألاّ يأخذ ريالاً واحداً، فانصرف وصار الغني يناديه، وهو لا يلتفت إليه، ورجع دون أن يأخذ شيئاً؛ فانظر إلى هذا اللؤم، والبخل، والشَّرَه، وصِغَرِ النَّفْس.

وأعرف رجلاً من ذوي الأموال الطائلة ولكنه بخيل جداً، وذات يوم دخلمحلاً صغيراً تُباع فيه بعض السلع الرخيصة، وصاحبه رجل فقير، فطلب ذلك الرجل الموسر نوعاً من مرطبات اليدين والبدن، فأحضره له صاحب المحل، فسأل المشتري عن قيمة السلعة، فقال صاحب المحل: قيمتها خمسة عشر ريالاً، فصار المشتري الغني يُلِحُّ ويتوسل إلى صاحب المحل أن يبيعه إياه باثني عشر ريالاً، فقال له صاحب المحل: هذا هو مكسبنا، فقال له المشتري: ولو كان؛ فاستحيا صاحب المحل، ووافق على مضض.

وكان أحد الناس حاضراً في ذلك الوقت، وآلمه ذلك الموقف كثيراً، وهمَّ بأن يقول لذلك الغني: أما تستحي! وهمَّ بأن يدفع عنه الثمن، ولكن خشي من سوء العاقبة؛ فآثر الصمت.

ويحدثني أحد أكابر القضاة قبل سنوات أنه ينظر في قضية تافهة جداً، خلاصتها أن أحد الأشخاص رفع دعوى على صاحب له، مفادها أنه اشترى منه خيمة وما يتبعها من أشياء، فلما فحصها المشتري وجد من ضمنها أدوات سباكة يسيرة تخص الخيمة، ووجد أن أحد أنابيب الماء سقط منه صنبور ماء لا يزيد سعره على ثلاثة ريالات، فرفع على صاحبه دعوى، وادّعى أن في البيع غشاً وغرراً!!

يقول القاضي: "فحاولت ثنيه عن شكواه، ولكنه أصر، فلما جاء الخصم حاولتُ فيه وقلت: هلاَّ أعطيتَه ما يريد، أو أذنت لي بأن أعطيك ما تريد؛ لتنتهي هذه القضية! فقال لي: دع الشرع يأخذ مجراه، فتذكرت المثل: إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصاراً.

وهكذا سارت القضية، وأشغلتنا وهي بتلك التفاهة والحقارة" ا.هـ .

فانظر إلى تفاوت الهمم، واختلاف النفوس كبراً وصغراً، وتأمل كيف تصعد تارة، وتهبط أخرى.

إن العلو في مثل ما مضى ذِكْرُه مما يحبه الله، ويرضاه، وإن السفول لمما يكرهه الله، وينهى عنه.

وإن فئاماً من الناس لا يتصور مثل ذلك، ولا يحتسب أجره إذا كان عالياً، ولا يخشى وزره إذا كان سافلاً، وإنما تمرّ منه على عين عمياء، وأذن صمّاء.

أخرج الطبراني في الكبير (1)، وابن عدي في الكامل(2) عن الحسنبنعلي -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "إن الله -تعالى- يحب معالي الأمور وأشرفها، ويكره سفسافها"(3).

وقد جاء الحديث بلفظ: "إن الله -عز وجل- كريم يحب الكرماء، ويحب معالي الأمور، ويكره سفاسفها"(4).

وجاء بلفظ: "إن الله جميل يحب الجمال، ويحب معالي الأخلاق، ويكره سفاسفها"(5).

هذه الأحاديث بمجموعها تفيد محبة الله -عز وجل- لمعالي الأمور وأشرافها، وكرهه -جل وعلا- لسفاسفها.

ويدخل تحت ذلك من الأمثلة ما لا حصر له؛ فمن جملة معالي الأمور إكرام الضيف، والتطلق له، والقيام على رعاية حقوقه.

ومما يدخل في قبيل معالي الأمور وأشرافها: الشهامةُ، والمروآتُ، وإباءةُ الضيم، وأصالةُ الرأي، والصفحُ والتغاضيُ، وطلاقةُ الوجه، ومكارمُ الأخلاق عموماً.

ومن معالي الأمور: الترفعُ عن الدنايا، والإعراضُ عن الجاهلين.

فهذه -بإجمال- أصول معالي الأمور وأشرافها.

وأما سفاسف الأمور فأضداد ما مضى؛ فيدخل في قبيل ذلك جملة كبيرة من الدنايا، وصغائر الأمور، ومحقراتها، فمن ذلك على سبيل المثال الشدةُ في مماكسة البائع، فتجد من الناس من إذا أراد شراء سلعة ما -ولو كانت زهيدة- اشتد في المماكسة، ويقبح ذلك إذا كان المشتري من ذوي الأموال الطائلة، والمكانة الاجتماعية المرموقة، والبائعُ من قليلي ذات اليد، ويبيع السلع الرخيصة جداً -كما مرَّ في موقف الغني مع البائع الفقير-.

ويدخل في ذلك: التقصيرُ في أداء الحقوق، كحقوق العمال، أو من يتفق معهم على أمر من الأمور.

ويدخل في ذلك الشحّ، والهلعُ؛ فبعض الناس إذا أراد إخراج ريال شعر بألم، وحسرة.

وإذا أراد قبض مبلغ من المال أصابه حال من الخفة، والهلع، حتى إنك لتنظر أثر ذلك في وجهه، وحركاته.

ويدخل فيه الوقوف عند الأمور الصغيرة التي لا تستدعي سوى التغافل، وغض الطرف.

ولا يعني ما مضى ذكره أن يتنازل الإنسان عن حقوقه، أو يصبح ساذجاً لا يدري ما ينفعه أو يضره.

وإنما هي دعوة لسمو النفوس، والارتفاع بها عن وهدة السقوط في براثن الشره، والشح؛ ففرق كبير بين من يعفو، ويترك حقه أو بعض حقه جهلاً، أو خوفاً، أو سذاجةً، وبين من يدع ذلك تكرّماً، وسماحةً وترفّقاً.



التصنيفات | 0 تعليقات

0 تعليقات على : “معالي الأمور وسفاسفها”